بريطانيا أمام المحنة

 

لقد أعقب انهيار فرنسا ذهول كبير ، يقول ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني في مذكراته (لأول مرة منذ 125 سنة يقف عدو شديد المراس أمام مياه القنال الإنكليزي الضيقة )

كان هتلر موقنا من أن الإنجليز سيسعون للصلح وأنهم لن يفكروا بغيره .

 

في تلك الأيام كانت بريطانيا تعود بالذاكرة إلى إمبراطوريتها المترامية الأطراف وتشهد الأخطار المحدقة بها عبر الجيش الألماني الفتي الجاثم فوق أوروبا كلها ، فتشعر أن الاستسلام والركوع أمام الغازي الجديد لا يعنيان غير شيء واحد هو أن تتحول إلى محمية من محميات الإمبراطورية الهتلرية .

 

في تلك الأثناء حدث مايدعو للتفجع فقد دمر الإنجليز الأسطول الفرنسي في عملية "المنجنيق" بحجج غير مقنعة للبحرية الفرنسية ، الأمر الذي أفقد الفرنسيين أكثر من ألفي قتيل حيث رفض هؤلاء تسليم السفن ، ولم يعرف أحد من الخبراء والمحللين حتى الآن ما الذي دعا لتعطيل الأسطول الفرنسي

 

قررت ألمانيا اللجوء إلى اللفتواف LV(109) والشتوكا ذات الإنقضاض الصاعق على بريطانيا ودك مصانعها ومطاراتها ومدنها ،وكان السلاح الجوي بقيادة غورنغ L2(78) يقوم بتحطيم الطيران البريطاني وإضعاف بريطانيا قبل اجتياحها . وكان هتلر يأمل في أن يحطم معنويات الجماهير ويرغم الحكومة على الاستسلام .

 

وقد جرت المعركة على ثلاث مراحل .

أما في المرحلة الأولى فقد أغارت الطائرات الألمانية على شواطىء بريطانيا الجنوبية والمناطق المعينة للغزو، قاذفة قنابلها على السفن ، والمستودعات والمؤسسات المرفأية . وكان الألمان يفكرون في استدراج المطاردات البريطانية على هذه الصورة ثم في عزلها

أما المرحلة الثانية فهي تستهدف القيادة الجوية وطائراتها ومطاراتها بحيث تتم إبادة الأسطول الجوي الإنكليزي وتطهر السماء من طائراته المطاردة ، ولما لم تستطع اللفتواف أن تحقق أهدافها في هاتين المرحلتين راحت تنقض انقضاضًا صاعقًا على المدن الكبيرة والمرافىء والمراكز الصناعية فكانت بذلك المرحلة الثالثة للمعركة .

 

في اليوم الخامس عشر من أغسطس نشبت معركة حامية الوطيس بين الأسطول الجوي الألماني رقم 5 القادم من النرويج وبين المجموعتين 12 و13 البريطانيتين ، وقد كان الرادار البريطاني متفوقا للغاية فقد اضطرت الطائرات الألمانية إلى إفراغ حمولتها في بحر الشمال والانكفاء ، وأصبحت العمليات ليلية.

بدأت الطائرات الألمانية بتوجيه الضربات للمراكز الحساسة لسلاح الراف .

في الفترة بين 24-8-1940م و6-9-1940م فقدت بريطانيا ربع قواتها الجوية وأكثر من 466 طائرة .

في 4 سبتمبر 1940م أسقطت القنابل المحرقة على لفربول فالتهمت كثيرا من أبنية ومنشآت المدينة

 

في 7 سبتمبر 1940م نقل غورنغ المعركة من مطارات "كنت" إلى عمارات لندن وأبنيتها ، وقُصفت لندن لمدة 57 ليلة دون انقطاع ، لقد أحدث القصف المشاكل والمصاعب للعائلات والأسر .

كان معدل الطائرات المغيرة أكثر من 200 طائرة ليلا يوميا

في ليلة 10 سبتمبر 1940م أسقطت الطائرات الألمانية فضلا عن حمولتها المعروفة من القذائف المتفجرة حوالي 70 ألف قذيفة حارقة ، فاشتعلت آلاف الحرائق

 

في ليلة 4 نوفمبر 1940م شنت الطائرات الألمانية الهجوم على نطاق واسع مستهدفة مصانع سيارات "رولز رويس" والأحياء المكتظة مثل حي كوفنتري

 

كان تشرشل يتفقد آثار الغارات ويخطب في الشعب البريطاني قائلا سنقاتل على سواحلنا ، سنقاتل على تلالنا سنقاتل في مدننا وقرانا ولن نستسلم قط .

في هذا العام تم توقيع اتفاقية الإعارة والتأجير بين بريطانيا والولايات المتحدة حيث يسمح لبريطانيا استخدام الأسلحة الأمريكية على سبيل الإعارة .

 

في 29 ديسمبر تساقطت القنابل المحرقة فوق لندن وأحدثت 1500 حريق ، كان هذا الحريق أكبر كارثة عرفتها هذه المدينة منذ الحريق الكبير الذي حدث فيها عام 1666 ، إن 200 ألف طن من القنابل تساقطت فوق الأرض البريطانية خلال تلك المعركة ، وكانت حصيلتها 40 ألف قتيل و 200 ألف جريح بين المدنيين . ومع ذلك صمدت بريطانيا واجتاح العالم آنذاك شعور غريب أمام ضخامة الهجوم الذي قام به الطيران الألماني .

 

وجاء عام 1941 ففي مايو وقعت أبشع وأعنف وأشرس وأبشع الغارت فدمرت أكثر من 40 ألف مسكن وأصبح أكثر من 167 ألف إنسان بلا مأوى

 

 

أعاد البريطانيون تنظيم الجيوش وتقسيم مناطق المملكة المتحدة لمناطق قتالية وأقيمت الحواجز المانعة للدبابات خشية الإنزال الألماني

يضاف إلى ذلك أن حواجز المناطيد والمدافع المضادة للطائرات والتحسينات السرية التي أدخلت على أجهزة الرادار من قبل العلماء الإنكليز قد قدمت مساعدات ثمينة لطائرات سبيتفاير وهاريكين القليلة نسبيًا في الفضاء .

 

في سبتمبر أصبح عدد السفن التي جمعها هتلر 3000 بين كبيرة وصغيرة تنتظر في موانىء فرنسية وألمانية وهولندية وبلجيكية استعدادًا لحمل الجنود الغزاة عبر بحر المانش .

ولكن اللفتواف لم تحقق أغراضها، فالمطارات البريطانية رغم الإصابات الشديدة التي نزلت بها كانت ما تزال قادرة على اعتراض المغيرين ، أما المطارات والمؤسسات القائمة فوق الأرض فإنها لم تهدم طبقًا للخطة الموضوعة والثابت أن الخسائر كانت كبيرة ولكن سفنًا وطائرات جديدة كانت تخرج باستمرار وبأعداد كبيرة من مصانع التجميع .

 

وبدلاً من أن يتابع الألمان عملياتهم الهجومية اقترفوا خطيئة استراتيجية كبيرة حين امتنعوا عن متابعة الغارات على الطائرات الإنكليزية ومؤسسات الطيران في البر البريطاني . لقد كان احتياطي الأسطول الجوي الإنكليزي في حالة نزيف شديد . وكان في وسع اللفتواف متابعة الهجوم حتى تطهر الفضاء من الطائرات المعادية . وعندما تتأمن لها السيادة في الجو يصبح في مكانتهم تجميد السفن البحرية والقاذفات البريطانية ومن ثم قطع خطوط التموين والقضاء على القوافل المتجهة نحو الجزيرة . وفي هذه الحالة تركع بريطانيا على ركبتيها أو يصبح الغزو عملية نقل للجنود وحسب .

 

كانت هناك غارات نهارية فوق التايمز في كل يوم دون انقطاع وغايتها إشاعة الخراب في كل مكان من المدينة . قنابل محرقة ومتفجرة تساقطت فوق لندن حتى أواسط نوفمبر ولا سيما الأحياء الكثيفة السكان عند الطرف الشرقي

أصبحت الغارات النهارية ليلية ابتداء من نوفمبر. ليلة بعد ليلة كانت القنابل الألمانية تتساقط فوق أحياء العاصمة . وكان الناس فيها يقضون لياليهم في أنفاق المترو أو في المخابىء فيواجه بعضهم الموت أو الجراح أو الاختناق تحت الأنقاض .

لقد كانت أيامًا عصيبة . وكان المنتظر من الشعب أن يصمد فيها وهو أعزل من السلاح تمامًا كما كان يصمد الطيارون في السماء ورجال السفن في البحر. ذلك لأن المعركة كانت في تلك الأوقات معركة جوية بحرية فقط .

وعند كل صباح كان المدنيون في لندن يخرجون إلى أعمالهم كالعادة، بانتظار مجيء ساعات الليل الرهيبة بينما تتابع السفن القادمة تفريغ حمولاتها ، والمصانع دورانها ووسائل النقل تحركاتها العادية .

يضاف إلى ذلك أن عشرات الآلاف من المدنيين قد توزعوا مهمات الوقاية فكانت منهم فرق الإطفاء والرقابة التي تعلن عن اقتراب طائرات العدو والمتطوعة في رفع الأنقاض عن الضحايا وإزالة الخرائب ، وكان منهم المهندسون والاختصاصيون الذين يتولون نزع كبسولات القنابل التي لم تنفجر أو ذات الانفجار المتأخر؟ كما كان منهم الأطباء والممرضات الذين يعنون بالمشوهين والجرحى . حدث هذا كله والألمان يعتقدون أن الانتصار قد أصبح في متناول أيديهم

 

لم تمر ليلة واحدة دون أن تشعل فيها الحرائق وسط المدينة ، ما من ليلة لم يرتفع فيها اللهيب إلى السماء فيلونها بلون الدم . المدافع المضادة للطائرات تطلق قنابلها ، الكشافات الضوئية تجتاح السماء نهر التايمز نفسه يحترق . كل الأحواض والمستودعات تحترق ، وفي كل دقيقة ، تحدث الانفجارات ثقيلة أو خفيفة . ويرتفع قناع من الغبار والدخان فيغطي المدينة إن لندن مدينة تحتضر.

 

وينقض النازيون بدورهم على المراكز الصناعية الكبيرة والمرافىء الرئيسية العظمى ، برمنغام ، روشستر، بريستول ، بلايموث ، دوفر، سوثمبتون . أما مدينة كوفنتري فقد هدمت خلال غارة من أشد الغارات عنفًا في 14 نوفمبر.

ولما لم تتحقق أهداف هذا الطيران حتى شهر سبتمبر ، وبما أن خسائر الأسطول البحري الألماني في معركة النرويج كانت كبيرة ، فقد قرر هتلر إرجاء موعد الغزو إلى أكتوبر. ثم تقرر التأجيل مرة أخرى إلى ربيع 1941 ، وبانتظار تحسن الأحوال الجوية ، تقرر التأجيل مرة ثالثة بعد القيام بالحملة التاريخية الكبرى على الاتحاد السوفياتي . وأخيرًا دفن مخطط أوتاري نهائيًا في يناير من عام 1942 . وقد حاوك الكثيرون أن يبحثوا عن الأسباب التي منعت هتلر من غزو بريطانيا . ولكن الجواب بقي سرًا خفيًا . هكذا استمرت محنة النار حتى ربيع 1941 بالنسبة للجزيرة البريطانية . ومنذ تلك الفترة أصبحت الغارات الجوية أشبه بالاختلاجات المتباعدة ، ولا سيما بعد أن تحولت القوات الألمانية نحو الاتحاد السوفياتي

إن معركة هتلر في سهول روسيا هي التي أنقذت بريطانيا . وسيتبين لنا أن هذه المغامرة الأخيرة هي التي حملت الخراب والدمار إلى رايخ الألف عام الذي كان يحلم به هتلر .

 

الصفحة الرئيسية